الاثنين، 11 مارس 2013

العجوز والشاب الفانكي


في محطة الأتوبيس، توجّهت إلي شبّاك التذاكر، حجزتُ مقعدًا ، صعدتُ الدرج الصغير ونظرتُ إلي هناك حيث مستقري طوال الرحلة... وأخيرا جلستُ أترقّب اللحظة التي تنطلق فيها الحافلة.!
صمتٌ وملل وانتظار لم يطل كثيرًا، فعلي حين غفلة أيقظَ الضجيج شابٌ (فانكي) ، صرخ في وجه رجلٌ ، رث الهيئة، غائر الملامح، لا يبدو منه إلّا شفتين تكسوهما ابتسامة بالية ،يقبعُ في نهايتها لحية اشتعل فيها الشيب . بيديه المرتجفتين راح يربتُ علي كتف الشاب ويقولُ (أنا آسف يا بُني . والله لم أقصد). العجوز لم يكن يُجيدُ القراءة ليكونَ باستطاعته تحديد مقعده، فكانَ عليه أن يمر بينَ المقاعد من أولها لآخرها، يعدها واحدًا واحدا ليصلَ إلي مكانه. ولأنّه كانَ بطيء الحركة؛ طالت الدقائق و تعرّق السمك الذي كان بحوزته فعبِقَت رائحته بالمكان. الشابُ ينهر العجوز وينفض يديه في وجهه. والدمعُ في استسلام خان العينين الزائغتين وسالَ من دون إذن علي خد الزمان القاسي، يلومهُ كيف تفعلُ بالشيب ما تفعل وكيف تُذلّه .. أليس لهُ عليكَ كرامة؟!

تجمّع حولَ العجوز بدل الشاب خمسة !
يسألونه في صوت واحد: "ءأعمي أنتَ أيُّها الرجُل؟"
"كيف نذهب إلي جامعاتنا الآن بعدما تشرّبت مقاعدنا رائحتكَ القذرة؟"

والرجلُ صامتٌ وصمتهُ يزيدهم طغيانًا وكُفرًا بكل معاني الإحترام والإنسانية.
جلس في مكانه أخيرًا وراحوا يضحكون -الخمسة- من ذلك الخَرِف الذي أفسد عليهم رحلتهم. فهذا يقول (أن البلد ستبقي علي حالها طالما كانَ فيها أمثال هذا الرجل) وآخر يتندر باعتذاره -العبيط- منهم ويردُ عليه ثالث متثاقف (المجتمع يعج بالكثير من أمثال هؤلاء، فلا تعقد آمالا كبيرة علي نهضته!!)

ورحت أسأل نفسي لو كنت بصحبة هؤلاء وتلوّث مقعدي بتلك الرائحة القذرة... ما الذي كنتُ سأفعله؟. هل كنتُ لأقبّل رأس العجوز وأقولُ له (لا عليكَ سيدي، سأتولي الأمر بنفسي)؟ ... أكنتُ سأفعل ما فعلوه به وأكثر؟ .. هل أكتفي باحتقاره في سرّي وأغادر الحافلة كلها إلي أخري؟؟

ولماذا أحتقره..؟
هل أشعرُ في قرارة نفسي أنّني أفضلُ منه، فقط لأنني أرتدي الملابس الفاخرة وألوي عنق الكلمات فأبدو مثقّفة. لأنني أحملُ في يدي كتابا ويحملُ هو في يديه أسماكا متعرّقة..!



"لا يجدرُ بالجهلة المتخلفينَ أن يتواجدوا في مثل هذه الأماكن... أنتُم جميًعا أولاد (ناس) ونحنُ أولاد (الكلب) الذينَ لا يجدر بهم أن يزاحموكم في هذه الدُّنيا..!" أطلق الرجل العجوز كلماته صارخًا في وجه الجميع ثمّ غادرَ وهو يلعنُ التعليم الذي جعل من أمثال هؤلاء القرود بشرًا.!

وما زلتُ أسأل..
ما الذي كنتُ سأفعله لو ..!
وأسألكم ما الذي كنتم ستفعلونه لو كنتم في تلك الحافلة... ؟
ما الذي دهانا حتّي أصبحنا طبقيين إلي هذا الحد؟
ما نوع الثقافة التي تغتال الأصالة وتبدّل النفوس وتجعل من المتعالينَ علي النّاس بشرًا يستحقّون الإجلال والإحترام، بل ويستحقونَ أن يحرسَ الرعاع لهم مقاعدهم من التلوُّث بالعفن؟!

24/2/2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق