الأحد، 26 أغسطس 2012

حافية القدمين ..ظننتُها رجلًا.!



-1-

ظننتُها رجلًا.!

من بعيد رأيته، كهلا نحيلا منكمشا علي نفسه، حافي القدمين، عليه جلباب بالي وغطاء رأس من الصوف -يُزيد الاسفلت الذي كان مستلقيا عليه حرارة فوق حرارة- قديم يبدو منه نصف وجه أسمر؛ ذائبة ملامحه في خلفية ترابية... كأن المرء يذوب في أصله كلّما استلقي علي التراب فيغدو كلاهما وجهين لشيء واحد. وتصبح التفرقة بينهما أمرًا عصيا، ربّما لهذا السبب يمر الأغنياء فوقهم دون أن يعيروهم أي انتباه. 

علي الجانب المقابل له، تسمرت واقفة...
إنه هي وليس هو، ألهذا الحد يتراءي البعيد بكل الصور إلّا صورته الحقيقية.؟.. أثارت فضولي فجعلتُ أقترب منها وأقترب، وذهلت مرة أخري حين وجدتها فتاة ، بنظري لم تكن بلغت العشرين بعد! ... فأينَ ذلكَ الكهل صاحب الجلباب؟!
غطاء رأسها لم يكن مصنوعا من الصوف كما خلته بل كان من شيء آخر يجعلك لا تتعاطف وحسب بل تجلس إلي جوارها لتبكي وتنهل هي من دموعك لتغسل وجهها.. إنه جِوال لا تدري هي ...من أكل كل ما كان فيها من أرز!
المرء حين ينظر للجائعين من عل قد يتوهم الحجارة في أيديهم طعاما لذا قد يتركهم ويمشي، قد يري ظل العريان المستظل بـ شجرة رجلً في لباس مزخرف بالريش لذا قد يتركه ويمشي، وعرفت أن الناظر من عل لا يري شيئا علي الإطلاق.

ارتفع صوت الحوار الدائر بيني وبين نفسي وحينها تسلل الضجيج من داخلي  إلي مسامعها فقامت من غفوتها فزعة، رمقتني بفحم عينيها وجعلت تدور بهما في المكان كأنها تبحث عن شيء تقذفني به تحسبا من أن أكون مصدرا للخطر. لم أبتعد ولم أرتعد ولم أقم من جوارها لأعد من جيث جئت إليها. حاولتُ أن أقول شيئا لكنني لم أجد شيئا لأقوله. أهي قوية إلي هذا الحد لتخيفني؟... لكنني لا أبدو خائفة منها فمازلت جالسة إليها لكنني لا أعرف لماذا ابتلعت لساني وجفّ ريقي وهربت الكلمات من فمي.

كان خطئي عظيما حين ممدت يدي إلي حقيبتي وأخرجت منها ما يداوي مرضانا ويطهرني من رجس حب الدنيا والبحث الدائم عن ملذاتها والطمع في كل مزيد... ورأيتني في خيالي أدسه في يديها لأمضي بعدها؛ يصاحبني الشعور بالفضل عليها والسبق علي كل من مروا هنا ولم يرمقوها بنظرة عطف ولم يمدوا لها يد الإحسان! ... تدخلت هي لتوقظني من أحلام صاحبة الفضل بنظرة لم ولن أنساها مادامت أنفاسي دافئة.

مازلت أذكر عيونها ...
تنظر إليَّ في كبرياء شامخة كأنها جبل، لازلت أتحسس علي جبيني ندي الخجل،
وحمرة ساخنة كست وجنتي لخطأ لم أرتكبه  لكنّ قوة كبرياءها أصابتني بما أصابني... لَا أعرف ربّما خجلت من ألّا أخجل!
. ردَّت إليَّ يدي - التي مددتها إليها بصدقة -  في بعض ضعف مغلف بقوة تقول لي: يا أنتِ أنا شريكة لكِ في هذا الوطن .فعلي من جئتي تتصدقين؟.

ألَا ترين سمرَتي تحكي عن شمسنا التي تنشر أشعتها علي الفقير والغني.
وهذا النيل يسري في عروقي رغم أنوفهم ..لم يحرمني ارتواءة ، يسكن في دمي...
و الهواء يتجاوز كل السدود .. يرسل نسيمه العليل يداعب عمري المستحي..
نعم! الزهور لم تكن يومًا لنا،، لكنّها لا تبتسم لكم قبل أن يقطر نداها في فمي.

ربما كست صفرة الجوع مع بعض طين ملامح تشردي، فأخفت هويتي.
هيا اغسلي وجهي من عار التشرد واستعدي لشروق شمس بلادنا من جبهتي.
صافحيني والمسي كفي ليسري الحنان إلي عروقكِ من دمي... احضنيني
واجعلي سواد عمري خلفي أنا.. وحمرة غروب الشقاء خلفكِ...
دعي البياض بيننا يسري وارفعي رأسكِ
التقط يا نسر صورة لها ولي...
يا بلادي ...
أليس هذا الذي في قلب السماء علمكِ؟! إنه يجمعها ويجمعني..
فامنحيني حقي بكرامة، لا تجعليني فيكِ دربًا من النسيان،
لا يذكرون السير فيه إلا إذا سقطت دمعتي!

ذهول وصمت اجتاح أرجائي بعد هذه الكلمات التي لم أدري من أي فم خرجت ... 
ربّما كان صعبًا علي أن أستوعب الفكرة أو ربّما كان الوقوف أمام حافية القدمين لـآخذ درسا -منها- في الإنسانية أمرًا أشد صعوبة وأكثر إثارة للخجل ... ذهبتُ لأتفضّل عليها فعدتُ من عندها وهي صاحبة الفضل عليْ.
دارت نفسي في المكان حولي وأنا مازلت ثابتة لَا أتحرك ثم وجدتُني فجأة ودون تفكير اخلع نعليّا وأضعهما علي الأرض حيث كانت نائمة هي ومضيتُ أنا حافية في واديها المقدس دون وداع...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق