الأربعاء، 22 أغسطس 2012

الغريبُ أبي!


الغريبُ.. أبي!

أهي مصادفة أن تكونَ أنت مجموع أول حرفين _يعلمني الوجود نطقهما_ في لغتي!
ليتركني بعدها باحثة عن معناك في كل الوجوه التي أقابلها؟!. بحثتُ عنكَ هنا حينَ كنتَ هناكْ ، وهناك حينَ أتيتَ إلي هنا . دوراني حول الأرض بحثا عنك، دائما كان يدوّخُ أملي!

حرفان فقط وياءٌ -تنتسب إليّ- هم كل ما كنت بحاجته من هذا العالم لأقول لك من قلبي: "أبي" ، فتهرع إلي كسفينة تشق عرض البحر كي تدرك غريقا يلوح لها براحتيه، تعبر به فوق الموج الذي يعتريه بعنف فتدفعُ عنه الغرق. كنتَ سفينة يا أبي؛ ولّت ظهرها لي بحثًا عن بحر آخر باسم التضحية لأجلي .

بنيتي: تلكَ استجابة متأخرة لنداءات قديمة لم تعنِ لي شيئًا بعدما فات أوان الشوق إليك واستحل قلبي غيابك كما استباحت غربتك طفولتي. حين قلتها مؤخرا أحرقت ما تبقي من قلب الطفلة الصغيرة داخلي . هل تعرف كم انتظرت خروجها من بين شفتيك؟ كلمة صغيرة استغرقتْ عمرًا كي تتجاوز حلقك إلي مسامعي . راسلتك كثيرا وناديت كثيرا فلماذا لم تجبني مرة واحدة : بنيتي!.. كل رسائلي التي كتبتها لأجلك كانت دون إمضاء، فعلتُ ذلك بظن طفلة تثق أنّ أباها يعرفها ويشتمُ رائحة حروفها دون أن تذيل الكلمات باسمها. ألم تكن تصلك رسائلي؟!... -كلها- تحاشيت في كتابتها التقاء الألف بـ الباء دونَ حائل بينهما، أتدري أن اجتماعهما كان يؤلمني .. يوجعني.. يذكرني بأنني أحتاج (أ/ب)!

في غيابكَ تضاربت المفردات. تسألني معلمتي عن معني..
- "الغربة" فأجيب: "رحيل أبي"
- "الظلم" : " أن ينساني أبي "
- "القسوة" : "بكاء أمي في غياب أبي"
- "الحزن" : "انتظار أبي"
- "الفرح" : "مؤجّل حتي يأتي أبي"!
قدومكَ الآن يدفعني للاعتراف بأنني كنتُ علي خطأ "فالحزن والقسوة والغربة والظلم" لهم مرادف واحد؛ هو غضبكَ منّي عندما لم أفتح لك ذراعيّ فور عودتك ونسيانك أنّي شرعتهما من قبل كثيرا وأطبقتهما علي الهواء. "والفرح" شعور لا علاقة له بمجيئك أبدًا. .. كنتُ مُخطئة!

لا...
من قالَ أنّني أكرهُك ! ...
 كل مَا في الأمرِ أنّني أبحث عن متسعٍ في دنياي لحبك.
- ما رأيكَ أن تتركنا من الحديث عن القادم الذي لم نعِشهُ بعد؟ . حدثني عن الماضي، عن طفولتي التي لا تعرفها ولا تعرفك. أعد لي ساعة واحدة من الأمس واحضن راحتيا ، راقصني ولاعبني واحملني علي كتفيك ، ألق بي في الفضاء ثم افتح ذراعيك والتقطني . .. صعبة؟! . أرأيت.. الأبّوة حينَ تكبر بعيدًا عن عيني طفلها
تشيخ. حتي "لحن الطفولة"  يصعبُ عليها تعلمه بعد المشيب . "كلمة السر" التي يعزفها كل أب أمام باب المغارة فيُفتح له ليدخل إلي قلب أطفاله . هل تعرفها؟!! .. مغارتي أمامك، هيّا . عبثا حاولت هداياك من قبل إغرائها فلم تفتح! ... المال ؛ حبنا الشديد له لا يشفع لنا عنده في أصعب اللحظات. أقصي ما يستطيع أن يُقدمهُ أن يقف محايدًا. ... ذهبت تجمعه من أجل حاضري ومستقبلي فسقط منك ماضينا في الطريق ولم تعره انتباها. فاسألهُ يرجعهُ إلينا !

في الوقت الذي كنتَ تعد فيه المال عدا ، كنتُ أعد أنا الأيام والليالي عدا علّها ترحم فتخبرك بضعف حيلتي في الغياب ... تحكي لك عن حرارتي المرتفعة وهلاوس الليل التي تجعلني أتحدث إليكَ كأنك معي .. ألا تشعرُ بشيء غريب في صوت أمي؟!.. صوتها زاده غيابك خشونة فكيف ستعيده أنت حنونا أنثويا رقيقا. حاولتْ أن تكونَ ظهرًا قويا استندُ إليه ، كانت رجلًا بالنهار يدفع عني عنت الحياة وطفلة باكية بالليل، أهدهدها كي تنام.

- من قال لك أن المال يؤنس الوحيد .. أو يشفي علة المريض.. أو يسند ضعيفا فيشعره أنه يأوي إلي ركن شديد.. هل يستطيع المال أن يمنع عن النّاس شرًا عنيد؟!.. هداياكَ علي مدي عشرين خريفا قضيتهم دونك لم تُغنِ عن  شكوي لطالما أردتُ أن أرتمي في أحضانك وأبوح لك بها لولا أن عقارب ساعتك كانت تقف طوال الوقت ضدي. ما كنت أعانيه لم يكن يستعصي علي حضن دافيء أن يداويه ويد حنونة تكفكف الدمع تثنيه، فيعود خائفا من كفيك إلي محاجره كي لَا تؤذيه!

يا أبي: مازلتُ جالسة هنا علي شاطيء انتظارك والبرد يلفني... والشوق إليك يكاد يحملني فوق الموج ، والريح من خلفي تدفعني لأرتمي علي صدرك لكنّ عشرون خريفا يقفون بيني وبينك. سأبقي هنا حتي تغرب الشمس كما اعتدت واعتادت وسأعود في نهاية اليوم منكمشة علي نفسي بصحبة لا أحد . سأظلُ أبحثُ فيك عنك، فأنت مازلت لا تشبه ذلك الرجل الذي قابلته في أحلامي وسردت لي أمي عنه الحكَايا. وجهك ليس يشبه ذاك الذي كان يطالعني في المَرَايا، يطري بجمالي ثمّ يلتقط لي صورة مع فستاني الجديد ولعبتي ويقبلني فأنَام لأصحو علي صوت أمي وتكبيرات عيد، أنتَ غير موجود فيه!

فاطمة سرحان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق